«You Can Run But You Cannot Hide» يمكنكم الهرب ولكن لا يمكنكم الاختباء

ليست عملية تعقّب واسترجاع الممتلكات العامة المنهوبة بالأمر المستحيل، فهي تحتاج لآلية واضحة وشفّافة تعتمد خطوات أساسية للوصول إلى الهدف، أبرزها تقييد قانوني واجتماعي لناهبي الممتلكات العامة، وتبديد 5 أفكار مغلوطة من بينها آليات تعقّب واسترجاع الممتلكات المنهوبة التي تبدأ بالتدقيق التقليدي في الحسابات العامة وصولاً إلى التعقّب والاسترجاع الدوليين.
تعقّب واسترجاع الممتلكات العامة المنهوبة في تموز 2018، وقّع الرئيسان الكيني والسويسري، أوهورو كينياتا وألان بيرسيت، اتفاقاً عُرِفَ بـFRACCK، أي إطار عودة الممتلكات الناشئة من الفساد والجريمة في كينيا (وفي الإنكليزية Framework for the Return of Assets from Corruption and Crime in Kenya).

ويهدف هذا الاتفاق إلى استرداد الأموال المنهوبة من قِبل مسؤولين كينيين فاسدين، والمخبأة في المصارف السويسرية: فساعدت حكومة سويسرا في إيجاد الممتلكات المنهوبة وفي تجميدها، قبل إعادتها إلى كينيا. بالإضافة إلى ذلك، خضع كل موظفي الخدمة العامة داخل كينيا لعمليات التدقيق في نمط الحياة (Lifestyle)، حيث أُلزموا بتبرير مصادر ممتلكاتهم.

يجب أن يكون ما تبيَّنَ ممكناً بين دولة إفريقية ودولة أوروبية، بمثابة نموذج للبنان. ولكن قبل الغوص في آلية تعقّب الممتلكات العامة واستردادها، يجب تبديد بعض الافكار المغلوطة. فيحاول من سأسميهم ناهبي الممتلكات العامة، الذين ينبغي وصف وضعهم القانوني والاجتماعي، تعكير المياه لتغطية آثار أعمالهم، ولتعقيد الحالات الواضحة والمباشرة.

أ‌- تقييد قانوني واجتماعي لناهبي الممتلكات العامة من المهم الأخذ في الاعتبار الأمور الآتية:

1- ناهبو الممتلكات العامة هم جناة عاديون، ويجب أن يتمّ التعامل معهم على هذا الأساس. وعلى الرغم من هيبة مركزهم، سيسقطون بكل تأكيد من مكانتهم.

2- ناهبو الممتلكات العامة ليسوا ذئاباً وحيدة تصطاد فريستها وحدها. هم يشكّلون دائماً ما يحدّده القانون الجنائي اللبناني كـ"جمعية الأشرار" (وفقاً للمادة 335)، ويجب التعامل معهم بنفس الطريقة المستعملة مع عصابات الجرائم المنظّمة مثل المافيا.

3- ناهبو الممتلكات العامة مجرمون، لأنّ الفساد هو سرطان نشروه طوعياً وعمداً في لبنان. وهذا السرطان يقضي الآن على ضحيته.

ب‌- تبديد خمس أفكار مغلوطة

علينا تبديد خمس أفكار مغلوطة هدفها ثني الناس عن فهم كيفية تعقّب ناهبي الممتلكات العامة، لتعقّب آثار غنائمهم واسترجاعها.

1- الفكرة المغلوطة الأولى: على عكس المعتقدات أو الادعاءات، لا حاجة الى قانون جديد لمعاقبة ناهبي الممتلكات العامة.

قانون العقوبات اللبناني العائد للعام 1942 وحده يكفي، إذ ثمة فصل كامل (المادة 351 وما يليها) مخصص للجرائم المخلّة بواجبات الوظيفة العامة، بما فيها: الرشوة؛ وصرف النفوذ؛ والاختلاس؛ واستثمار الوظيفة؛ واساءة استعمال الوظيفة؛ وغيرها. إذاً ما الحاجة الى قوانين جديدة في ظل توفّر، منذ 80 عاماً، خريطة طريق واضحة كهذه تؤدي إلى معاقبة ناهبي الممتلكات العامة؟ بالإضافة إلى هذا القانون، يمكن أيضاً الاستعانة بقوانين متعاقبة، منها القانون رقم 154 تاريخ 27 تشرين الثاني 1999 حول الإثراء غير المشروع الذي حلّ محل المرسوم الاشتراعي رقم 38 تاريخ 18 آذار 1953، والقانون الصادر بتاريخ 14 نيسان 1954.

2- الفكرة المغلوطة الثانية: على عكس المعتقدات أو الادّعاءات، لا حاجة الى قوانين جديدة ولا الى أعمال طوعية لرفع السرّية المصرفية عن حسابات ناهبي الممتلكات العامة.

إنّ قانون السرّية المصرفية لعام 1956، والقانون رقم 44 تاريخ 24 تشرين الثاني 2015 حول مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والقانون رقم 55 تاريخ 27 تشرين الأول 2016 حول تبادل المعلومات لأغراض ضريبية، توفّر كل الوسائل اللازمة لرفع السرّية المصرفية، إن كان على أساس طوعي (أي من قِبل ناهبي الممتلكات العامة أنفسهم) أو بشكل جبري من قِبل هيئة التحقيق الخاصة (لدى مصرف لبنان)، و/أو من قِبل سلطات إدارية وقضائية أخرى.

3- الفكرة المغلوطة الثالثة: على عكس المعتقدات أو الادّعاءات، لا حاجة الى محاكم جديدة ومتخصصة للحكم على ناهبي الممتلكات العامة ومعاقبتهم.
المحاكم الجنائية العادية، إن نُظّمت بشكل صحيح، هي أفضل صرح لذلك: فهي أقل عرضة للقواعد الخاصة (وغالباً لإجراءات واستثناءات على الطلب)، ويديرها قضاة عاديون وليس أفراداً تختارهم السلطة قد يكون حيادهم موضع شبهة.

4- الفكرة المغلوطة الرابعة: على عكس المعتقدات أو الادّعاءات، لا حاجة الى عفو عام للبدء من جديد بصفحة بيضاء.

سياسة «الصفحة البيضاء» تشجع السارقين على ممارسة النهب من جديد. لذا، إنّ معاقبة كل السارقين ضروري لضرب المثل، وقوانين العفو هي مجرد وسيلة أخرى لمساعدة ناهبي الممتلكات العامة في الفرار من العدالة. وحتى إذا تمّ التصويت على قانون عفو، يمكن إبطال هذا القانون في أي وقت كان من قِبل مجلس نواب جديد.


5- الفكرة المغلوطة الخامسة: على عكس المعتقدات أو الادّعاءات، لا يمكن إخفاء أو تخبئة الممتلكات المنهوبة.

لم تعد «الثقوب السوداء» موجودة في عالم المصارف والمال. فمع مختلف المعاهدات والآليات المتعددة الأطراف، من بينها الاتفاقية المتعددة الأطراف للتعاون التقني في المجال الضريبي (MAC) والاتفاقية المتعلقة بالسلطات المختصة (MCAA) التي التزم بهما لبنان بمقتضى القانون رقم 55 تاريخ 27 تشرين الأول 2016، ومع إرادة منظمة التعاون والنمو الاقتصادي (OECD) ومنظمات وشبكات دولية أخرى لمساعدة البلدان التي تعاني من الفساد العام، لم يكن تبادل المعلومات بهذه السهولة يوماً. أما بشأن قدرة ناهبي الممتلكات العامة وقدرة جيشهم المكوّن من محامين، ومستشارين ومحاسبين على إخفاء غنائمهم في الملاذات الضريبية خارج لبنان، علينا الإشارة إلى أنّ عدد هذه الملاذات يتضاءل بنفس سرعة ارتفاع عدد المختصين في الأدلة الجنائية (Forensic) المالية والحسابية. فقد أظهر هؤلاء المختصون، من خلال تعقّب واسترجاع ممتلكات منهوبة من قِبل مختلف الحكّام المستبدّين المخلوعين، والمختلسين الماليين الدوليين الذين سقطوا، وتجار المخدرات، أنّ العمل الشاق والتحقيقي في الأرقام يعود دائماً بمكافآت كبيرة.

ج - آليات تعقّب واسترجاع الممتلكات المنهوبة

حينما يصبح لبنان مستعداً لاستهلال المسيرة الطويلة والشاقة، ولكن المرضية جداً، في تعقّب ممتلكاته المنهوبة لعقود من قِبل آلاف العاملين في الخدمة العامة، والمسؤولين والسياسيين، لن يكون وحيداً، ولن يُبحِر في مياه مجهولة. فكما بيّنّا أعلاه، يمكن الدخول في اتفاقيات ثنائية الأطراف مع بلدان كانت تقليدياً ملاذات آمنة لناهبي الممتلكات العامة. إلى جانب ذلك، ثمة فرقاء في اتفاقيات متعددة الأطراف وشبكات متخصصة، مستعدة لمساعدة لبنان في مسيرته.

1- أولاً: التدقيق التقليدي في الحسابات العامة.

يجب إجراء تدقيق شرعي (Forensic) شامل لكل الحسابات العامة منذ عام 1990 في لبنان من قِبَل محاسِبين مستقلين (ومن المفضّل أن يكونوا دوليين).

وعلى هؤلاء التدقيق في الحسابات، وفي مبررات الدفع، وصِحّة المناقصات والتعاقدات، وغيرها. ومن الواضح أنّ النموذج الحالي من موازنة، وقطع حساب، وديوان محاسبة، وغيرها، ليس فعّالاً. ومن غير المستحسن تسليم من فشلوا في تأدية واجباتهم (لأي سبب كان، ولمبررات غير مقنعة في غالبية الأحيان)، ومن قد يكونون مشتبهاً فيهم، مسؤولية هذه المهمة الحرجة.

2- ثانياً: التحقيق مع كل ناهبي الممتلكات العامة المشتبه فيهم.

لا يجدر تضييع الوقت والطاقة على قتال دونكيشوتي لرفع السرية المصرفية، قبل إجراء عمليات تدقيق أولية لنمط الحياة بحق ناهبي الممتلكات العامة المشتبه فيهم. إنّ أيّ مدقق ضريبي متوسط الاندفاع في أي إدارة ضريبية متوسطة الصدق، يعلم أنّه غالباً ما يتمّ القبض على المتهرّبين من دفع الضرائب بسبب العرض الذي يقومون به في حياتهم اليومية لجشعهم. حتى أنّ مقارنة بسيطة بين أجور العاملين أو المسؤولين في الخدمة العامة وأساليب معيشتهم تكفي.

3- ثالثاً: تعقّب الممتلكات العامة المنهوبة.

واقعياً، ناهبو الممتلكات العامة، كما قلنا أعلاه، هم جناة عاديون يعرضون على العلن عائدات سرقاتهم، وتوازي عدم معاقبتهم وعجرفتهم، تباهيهم المبتذل. فإنّ منازلهم، وسياراتهم، وأماكن إقامتهم الثانوية، واستثماراتهم، وتلك العائدة لعائلاتهم، ومستشاريهم، وغيرها من الأمور، كلها برهان على غنائمهم. وإنّ السجلات العامة، مثل السجلات التجارية، والسجلات العقارية، وسجلات دائرة المركبات، وملفات وزارة المال، هي نقطة بداية لا بأس بها.

بالإضافة إلى ذلك، يُستدعى اليوم المحققون الخاصون، والمختصون في الأدلة الجنائية المالية والحسابية، وتقنيو تكنولوجيا المعلومات، وبشكل روتيني، لتعقّب التدفقات المالية الخارجة عن الحسابات العامة، ونقلها إلى أفراد أو كيانات خاصة، ولتعقّب مسارها في لبنان (أي الإيداعات المصرفية؛ واستثمارات في الشركات والاستثمارات العقارية؛ وشراء الأدوات المالية؛ والقروض؛ والهندسات الإئتمانية؛ وغيرها)، كما في الخارج. وعندما يتوجّه مسار هذه التدفقات إلى خارج لبنان، تظهر الحاجة لتعقب واسترجاع دوليين.

4- رابعاً: التعقّب والاسترجاع الدوليان.

وضعت الأمم المتحدة أداة دولية مهمة، ودخلت حيز التنفيذ في شهر كانون الأول من العام 2005، وهذه الأداة هي «اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد». وتلك كانت أول أداة أممية تتناول مسألة استرجاع الممتلكات المنهوبة كأولوية في مكافحة الفساد، وتهدف إلى العمل بمثابة معاهدةِ مساعدةٍ قانونية متعددة الأطراف (Y. Equivel, Basel Institution on Governance, 2009).

منذ ذلك الحين، وإلى جانب الآليات الخاصة الثنائية الأطراف، تمّ وضع العديد من المبادرات الدولية لدعم جهود تعقّب واسترجاع الممتلكات العامة المنهوبة من قِبل المسؤولين الفاسدين. وإنّ «مبادرة استرجاع الممتلكات المنهوبة»، وهي شراكة بين البنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، تعمل مع دول نامية لتسهيل عودة الممتلكات المنهوبة وعائدات الفساد. وقد انضمّ مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة إلى هذا الحراك وساهم في هذه الشراكة. ومنذ لحظة سرقتها، تترك الممتلكات المنهوبة أثراً؛ ويستطيع محاسبون ومدققون نزيهون، بمساعدة مدققين دوليين ومختصين دوليِين في الأدلة الجنائية، الاعتماد على المجتمع الدولي لمساعدتهم في عملية استرجاعها.

لقد تمّ انذار ناهبي الممتلكات العامة: لقد نهبوا، وفرّوا، وما زالوا يفرّون، ولكنهم لن يتمكنوا أبداً من الاختباء. فقد خلّفت نشاطاتهم الجرمية أثراً لا يمكن محوه في لبنان، وفي الخارج لمن لجأوا إلى مخبأ في ما أصبح ملاذاً غير آمن لهم. وسيتم تعقّب ناهبي الممتلكات العامة، وسيتمّ تعقّب آثار الممتلكات العامة المنهوبة واسترجاعها. وهذه طريقة فعّالة لدعم الاقتصاد الوطني من دون تكبّد المزيد من الديون المهلكة.