هذا أخطر أسلحة ميليشيا «حزب الله»

منذ فترة لم يعد الخلاف بين شطر كبير من اللبنانيين وميليشيا «حزب الله» يتمحور حول السياسة، لا بمعناها الواسع للكلمة كماهية هوية لبنان ودوره، ولا بالمعنى الضيق للكلمة، أي التباين بشأن الاقتصاد والقوانين والتشريع، أو حتى السلاح ودوره وحدود هذا الدور.
الخلاف مع ميليشيا «حزب الله» بات حول السوية الذهنية للحزب ولمسؤوليه، وللخطاب الذي يصدر عن هذه الذهنية، والمدى الخطير الذي يفصل بينه وبين الواقع... أي واقع!
صحيح أن «حزب الله» هو أكبر الأحزاب اللبنانية وأكثرها تحشيداً وأعقدها دوراً، وقد يتبادر للبعض أنه أقدرها على مستوى تقديم خطاب ورؤية سياسية، إلا أن الواقع يفيد بأن هذا الحزب يقيم في عالم كامل من السحر الذي يشيّده حول نفسه ومحازبيه. أو الأدق أنه بات يقيم في هذا العالم منذ أن بدأ يتعاظم انهيار الدولة التي آوته وانتحلت كل صفات التسوية معه ورعت، لأسباب كثيرة ومعقدة، وصوله إلى ما وصل إليه من استفحال.
تصريحان استوقفاني مؤخراً، ينحدران من عوالم السحر هذه التي تشيدها ميليشيا «حزب الله» بدأب غير مسبوق.
فقد اعتبر رئيس المجلس التنفيذي للميليشيا هاشم صفي الدين، أننا «نعيش اليوم نعيم الانتصارات ولا نعيش الذل والضعف أبداً؛ لذا نحن مستمرون في طريق المقاومة القوية والحاضرة لمواجهة العدو ولن نتراجع، بل نزداد قوة».
لنترك جانباً مفارقة أن الرجل يتحدث عن مقاومة قوية وقادرة في الوقت الذي تستفحل فيه الضربات الإسرائيلية المعلنة لإيران و«حزب الله» في كل من سوريا وإيران نفسها.
الأفدح، أنه يتحدث بكامل الأريحية عن «النعيم» في وصف أوضاع البلاد نفسها التي قال رئيس الجمهورية عن أن جهنم هي وجهة أهلها وناسها وشعبها حين سألته صحافية «إلى أين ستذهب الأوضاع؟».
مثل هذا التصريح لا ينمّ عن اختلافات سياسية مقبولة في أي بقعة من العالم حول كيفيات الخروج من الجحيم أو الطريق الأسلم للوصول إلى النعيم. فهذه الاختلافات السياسية بين يمين ويسار وليبرالي وقومي وغيرها، شرطها الاتفاق الموضوعي على توصيف الواقع ثم بناء سياسات متباينة بشأنه وبشأن كيفية التعامل معه. أما ما نحن بإزائه فهو انشطار عقلي وذهني وتصوري حول توصيف الواقع نفسه.

 

أي نعيم يتحدث عنه صفي الدين في بلاد صنفت أزمتها الاقتصادية بأنها الأسوأ في العالم منذ مائة وخمسين عاماً، وفقدت عملتها الوطنية أكثر من 90 في المائة من قيمتها وتبخرت مدخرات المودعين في مصارفها، في حين ارتفعت أسعار مواد أساسية فيها بأكثر من 700 في المائة، وبات أكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر؟
إذا كان هذا نعيماً... فما هي معايير الجحيم إذن؟
خطورة تصريحات مسؤول ميليشيا «حزب الله»، أنها مرفوضة حتى بمعايير النفاق السياسي، لأنها تعبر عن انفصام خطير في النظر إلى البديهيات التي يستشعرها حتى من هم في صف موالاة حزب صفي الدين وجماعته.
التصريح الآخر، جاء على لسان نائب الأمين العام لميليشيا «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم، الذي ذهب في الانفصام إلى حد الحلول في شخصية أخرى تناقضه تماماً حين يقول مخاطباً خصومه السياسيين «أنتم لا تشبهون لبنان نحن الذين نشبهه؛ لأن من يرتبط بوطن يجب أن يرتبط به سيداً حراً مستقلاً».
لا يكف هذا المنطق عن إلغاء خصومه، بل يعمل بشكل ممنهج على مصادرة خطابهم السياسي ومفرداتهم وعناوينهم. عبارة «سيد حر مستقل»، وبهذا الترتيب لا غيره، هي من العبارات المركزية في خطاب خصوم «حزب الله»، الذين كانوا قبل ذلك خصوم سوريا إبان وصايتها على لبنان. وتكاد هذه العبارة ترتقي إلى عنوان البرنامج السياسي الذي يختصر كامل ما عبّروا عنه وانتموا إليه منذ بيان المطارنة الموارنة في سبتمبر (أيلول) 2002. مفهوم في السياسة أن يضع الشيخ نعيم قاسم المقاومة في صدارة الأولويات بدلاً عن الاقتصاد مثلاً، أو الحجاب بدلاً عن الاستثمار السياحي أو أي عنوان آخر. ما ليس مفهوماً أن يسطو بالكامل على خطاب خصومه وينتحل صفتهم، ليصير إلغاؤهم إلغاءً مزدوجاً.
بمثل عوالم السحر هذه وخطابها الذي هو بالتعريف خطاب مضاد للمنطق والبرهان، يبني «حزب الله» السياسة في لبنان مدعياً الحرص على مصالح اللبنانيين ومصالح لبنان.
ففي ذروة أزمة لبنان مع دول الخليج، وفي غمرة المداولات الجارية بقيادة فرنسا لترتيب وتطريب العلاقات بين بيروت وعواصم خليجية، تستفيق العاصمة اللبنانية على استضافة ميليشيا «حزب الله» مؤتمراً صحافياً لشخصيات تصنّفها المنامة أنها «عناصر ترعى وتدعم الإرهاب وتعمل على بث وترويج مزاعم وادعاءات مسيئة ومغرضة ضد مملكة البحرين».
ولعله في عقل صفي الدين وقاسم، أن في مثل هذه المؤتمرات ما يعزز «نعيم» لبنان وما يحصّن حريته وسيادته واستقلاله.
تماماً، كما أن انفجار مخزن للأسلحة قبل أيام في مخيم البرج الشمالي للاجئين الفلسطينيين جنوب لبنان، وفي منطقة عمل القرار الأممي 1701، هو مصداق على قوة الدولة ومناعة مصالح اللبنانيين ومؤشر من مؤشرات النعيم والحرية والسيادة والاستقلال.
تزامن مثل هذه الأحداث مع خطابات مسؤولي ميليشيا «حزب الله»، والتناقض السافر بين الاثنين (الأحداث والخطاب) يرتقي بالأزمة، إلى حدود الأمراض العيادية المستعصية، التي لا علاج لها داخل علم السياسة، وتفصح عن أن الانفصام الذي يعيشه أقوى أحزاب لبنان، بات أكثر خطراً من سلاحه وصواريخه ومتفجراته؛ لأن أي تسوية في المستقبل تتطلب قدراً من العقلانية التي يبدو أن رصيدها في صف ميليشيا «حزب الله» قارب على النفاد.
هو عالم من السحر يستدرج عوالم سحر مضادة؛ ما يجعل السياسة في لبنان ضرباً من الشعوذة ومن الناس ضحايا لأقدار لا يتحكمون فيها أو منتظرين لمعجزات لن تأتي.