مَن يعطّل الاتفاق مع صندوق النقد؟

يبدو ملف المفاوضات بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي وكأنّه من الأسرار الكبرى الممنوع إدراكها. وعلى رغم أنّ لبنان ينزلق نحو الحضيض الذي تصعب القيامة بعده، وعلى رغم أنّ أي إنقاذ لا يمكن أن يبدأ إلا باتفاق مع الصندوق، فإنّ أحداً لا يعرف: ما الذي يعطّل هذا الاتفاق؟

إنفجرت الأزمة المالية - النقدية في 17 تشرين الأول 2019. لكن برميل البارود كان يُحتقن منذ سنوات عدّة، وبصمت مريب. والدليل أنّ باريس سارعت إلى محاولة تجنيب لبنان مصيره المحتوم من خلال مؤتمر «سيدر» قبل عام، والزيارات الطارئة التي قام بها منسِّق المؤتمر لبيروت، بيار دوكان، والتي قدَّم خلالها نصائح كانت ثمينة جداً في ذلك الحين، ويمكن أن تتجنَّب الانفجار.

بين 2017 و2018 تحرَّك دوكان مكوكياً على المسؤولين، بتكليف ورعاية مباشرين من الرئيس إيمانويل ماكرون، ونقل إليهم تحذيرات من مغبة تجاهل مطالب المجتمع الدولي. وكان جواب بعض أهل السلطة أنّ المشكلة الحقيقية تكمن في الحصار السياسي والمالي الذي تنفّذه قوى دولية وعربية على لبنان.

وجاء جواب دوكان يومذاك: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا تلبّون مطالب الإصلاح وتديرون مالية الدولة ومرافقها ومؤسساتها بشفافية؟ أليس هذا هو أفضل سبيل لإزالة الذرائع من أيدي أي كان وكشف الأمور على حقيقتها؟

طبعاً، لم يستجب أحد للصديق الفرنسي الذي حاول وحده إنقاذ لبنان الدولة، وربما الكيان. وقال وزير خارجية باريس آنذاك جان إيف لودريان: «لبنان يواجه خطر التحلُّل إذا لم تبادروا إلى إنقاذه».

بعد عام من مؤتمر «سيدر»، وقع لبنان في المحظور. لكن القوى السياسية التي تدير شؤونه لم تبدِّل من نهجها، على رغم أنّ أمامها إجراءات عديدة كان يمكن أن تحدّ من سرعة الانهيار وشراسته. وعلى رغم نصائح الأصدقاء الفرنسيين وبعض العرب، لم تقدِّم هذه القوى أي إشارة إلى شعورها بالخطر. فاستمر الانهيار بلا كوابح.

 

إخترعت هذه القوى ذرائع للتهرّب من ضوابط «الكابيتال كونترول» و«الهيركات» في موعدهما المناسب، أي في اللحظة الأولى من انفجار الأزمة، وحين كان الدولار عند مستوى 1500 ليرة أو 1800، لا أكثر، وكان في مصرف لبنان قرابة 30 مليار دولار من العملات الصعبة، إضافة إلى احتياط الذهب. ولم تقم بأي خطوة لاسترداد شيء من الأموال المنهوبة أو المهرّبة أو المحوّلة، بما فيها الأموال غير المشروعة.

وعلى رغم أنّ تصنيف لبنان السيادي كان قد تدهور تدريجاً ليبلغ المستوى C، فإنّ مؤسساته العامة والخاصة، بما فيها القطاع المصرفي، بقيت تتمتع بحدّ أدنى من القيمة عالمياً. وفي العمق، كان الإفلاس قد تحقَّق، كما توقَّعه كثيرون قبل سنوات، لكن إمكانات النهوض بقيت قائمة.

 

وعندما طُرِحت فكرة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، رفضتها القوى النافذة من دون شرح المبررات. وتحت ضغط الإلحاح الدولي، والفرنسي خصوصاً، باشر لبنان مفاوضات مع الصندوق في أيار 2020، أي بعد نحو 6 أشهر من انفجار 17 تشرين.

 

معروفٌ شرط الصندوق الوحيد: الإصلاح. وحول هذه النقطة، إختلف الطرفان. ولذلك، لم تدم المفاوضات أكثر من 3 أشهر، فجمّد الصندوق أي تفاوض اعتراضاً على النهج اللبناني.

 

استمرَّت الأقنية مقفلة بين الطرفين، على رغم أنّ الانهيار بلغ مستويات مرعبة، إلى أن فُتحت مجدداً في تشرين الأول الفائت، بعد تشكيل الحكومة الميقاتية. ومع مطلع العام الحالي، انطلقت المفاوضات رسمياً، ليتمّ الإعلان عن اتفاق مبدئي، على مستوى الموظفين، في مطلع آذار.

 

الإتفاق ينصّ على تقديم الصندوق تمويلاً للبنان بقيمة 3 مليارات دولار، يقسَّط على 4 سنوات، بناءً على خطة شاملة للإصلاح تتضمن اعترافاً لبنانياً بالشفافية واستعادة الاستدامة المالية.

 

لكن الأهم هو ما رشح آنذاك عن تعهَّد لبنان بإجراء إصلاحات أساسية قبل الاجتماع السنوي لمجلس إدارة صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي اليوم المقرّرة بين 10 و16 تشرين الأول في واشنطن.

 

لذلك، تجد الحكومة الميقاتية نفسها، وهي في وضعية تصريف الأعمال، أمام تحدّي إنجاز الإصلاحات الموعودة، لئلا يسقط الاتفاق المبدئي مع الصندوق. ولكن، في الأسابيع الأربعة المتبقية قبل الموعد، هل هناك تزخيم حقيقي للإصلاحات الموعودة؟

 

حتى اليوم، هناك كلام على ورشة تشريعية تسبق الموعد «الافتراضي» لانتخاب رئيس للجمهورية، يتمّ خلالها إقرار موازنة عامة والعديد من القوانين الإصلاحية المطلوبة. ولكن، ثمة مَن يعتقد أنّ ذوي السلطة ليسوا في وارد تلبية الشروط التي يطرحها صندوق النقد، لأنّ ذلك يشكّل إدانة لهم وقطعاً لمزاريب الهدر التي يعتاش عليها الكثيرون. ولذلك، ليس في الأفق ما يوحي بأنّ مسار الاتفاق مع الصندوق سالك وآمن.

 

في المقابل، بعض أركان السلطة يعتبرون أنّ صندوق النقد الدولي ليس سوى أداة ضغط تحرّكها الولايات المتحدة لاستهداف خصومها وإخضاعهم، ولذلك، لا يُبدي هؤلاء حماسة لتلبية مطالب الصندوق وتسريع الاتفاق معه، ويقولون: الانهيار اللبناني سياسي. وعندما يحين الوقت للتسويات السياسية الكبرى، فإنّ لبنان سيستعيد انتعاشه بصندوق النقد أو من دونه.

بل إنّ البعض يراهن على اتفاق في مسألة الترسيم وتقاسم موارد الغاز، ما يتيح للبنان أن يحظى بدعم مالي يقدّر بعشرات المليارات من الدولارات عند بدء الاستخراج. ومن شأن هذا المبلغ أن يعيد تقويم الوضع المالي والاقتصادي من دون الحاجة إلى مليارات قليلة من المؤسسات الدولية المانحة.

ولكن، ثمة مَن يسأل: ألا يحتاج اتفاق الترسيم واستثمار الغاز أيضاً إلى تغطية سياسية دولية لإقراره، تماماً كما الاتفاق مع صندوق النقد والإفراج عن مساعدات «سيدر»؟

في هذا المنطق، يبدو لبنان مقبلاً على الاختناق تماماً بين فكّي كماشة: الأول هو أركان السلطة الرافضون أي نوع من الإصلاح لأنّه يشكّل مقتلاً لمعظمهم، والثاني هو القوى الدولية الماضية في ممارسة الضغط على لبنان. ولهذا السبب، تصبح التوقعات لما بعد تشرين الأول خطرة جداً، وتثير القلق من أن تتحقّق مخاوف لودريان.