ماذا لو اختفى الدولار من السوق؟

تغيّر نمط حياة اللبناني قسراً، وهو يحاول راهناً التأقلم مع واقعه الجديد. تبدّلت أولوياته والمعايير المعتمدة في التبضّع، متماهياً مع تراجع قدرته الشرائية بما لا يقل عن 40 في المئة، وانخفاض راتبه الى النصف. اصبح يقبل بأي شيء، والمعيار السعر الأرخص وليس النوعية ولا الجودة، ما شرّع الأبواب امام دخول منتجات الى الأسواق اللبنانية ما كان ليقبل بها المستهلك في السابق.

تخطّت الأسعار في المحلات التجارية والسوبرماركت المعقول أحياناً، فهل يُعقل ان يصل سعر الحذاء في احد المحلات التجارية غير النخبوية الى 600 الف ليرة، وسعر ثياب النوم الى 200 و300 الف ليرة. اما الأسعار في السوبرماركت فحدّث ولا حرج، تقف أمامها العائلات محتارة ماذا تختار ضمن الأولويات.

الأسعار في تغيّر يومي والى منحى تصاعدي، والعروضات غالبًا ما تنحصر بالمنتجات التي تقترب صلاحيتها من الانتهاء. وإذ يربط التجار هذه الارتفاعات بارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة في السوق الموازي، إذاً كيف سيكون الحال متى فُقدت السيطرة على سعر الدولار في السوق الموازي، خصوصًا وان الامر غير مُستبعد في ظلّ الشح المتزايد في هذه العملة الصعبة؟

لبنان مختلف

يؤكّد الخبير الاقتصادي شربل قرداحي انّ لبنان في المرحلة المقبلة وفي ظل الشح في الدولار سيختلف عن لبنان الذي عهدناه، لأننا اعتدنا خلال الـ 34 سنة الماضية التعامل بالدولار وتحديدًا منذ منتصف الثمانينات، عندما فقدت الليرة قيمتها مقابل الدولار الأميركي، ما أدّى الى تضخم كبير دفع باللبنانيين الى اقتناء الدولار وادخاره واستخدامه.

اما اليوم، وبعدما بدأت هذه العملة تتقلّص من الأسواق، بات اللبنانيون مجبرين على التعامل بالعملة اللبنانية، وقد بدأت تتراجع قيمة العملة الوطنية نتيجة الأوضاع الحالية وارتفاع العجز في ميزان المدفوعات واختلال التوازن في الميزان التجاري، ما انعكس انخفاضًا في القدرة الشرائية للمواطنين.

وأوضح قرداحي لـ«الجمهورية»، انه بعد توقف التداول رسميًا بالدولار سيكون على التاجر مجبرًا شراء الدولار من السوق الموازي بغرض الاستيراد. اما بالنسبة الى المودعين فسيكونون امام haircut لودائعهم بالدولار، شارحًا انّه اذا بقي سعر صرف الدولار ثابتًا رسميًا على الـ 1500 ليرة، فستعطيهم المصارف أموالهم بالليرة اللبنانية دون قيمتها الفعلية، لأنّ سعر صرف الدولار في السوق الموازي يتخطّى الـ 2400 ليرة، وهذا نوع من الاقتطاع من الودائع. اما في حال توقفت المصارف عن إعطاء الدولار واعطت المودعين ايداعاتهم المودعة لديها بالدولار بالليرة اللبنانية محتسبة سعر صرف الليرة وفق سعر السوق، فهذه الحالة لا تعتبر اقتطاعا او haircut.

وعمّا اذا كان الشح بالدولار سيدفع في اتجاه رفع سعره مقابل الليرة في المرحلة المقبلة، أوضح قرداحي: «ان سعر الدولار يتحرّك وفقاً للعرض والطلب وبالتالي كلما زاد الطلب على الدولار لغاية الاستيراد سيرتفع سعره، وفي المقابل كلما تأمّن العرض، ربما على صورة تحويلات من المغتربين اللبنانيين في الخارج او من خلال ارتفاع حجم التصدير او من عائدات السياحة او من خلال حركة استثمارات خارجية مباشرة، عندها سيتراجع سعر صرف الدولار مقابل الليرة». وأكّد انّه في حال تمّ تحرير سعر صرف الليرة فلن يكون هناك حدود لارتفاعه، كما لن يكون هناك حدود لتراجعه.

وبالنسبة الى مصير الودائع بالدولار، يقول قرداحي: «كما بات معروفًا، المصارف وظّفت قسمًا منها في البنك المركزي، وقسمًا آخر في الاقتصاد الوطني وفي سندات الخزينة او حتى خارج لبنان»، لافتًا الى انّ «لا علاقة لاستعادة الودائع بالعملة الورقية بالدولار، انما ترتبط بمدى قدرة المصارف على تحصيل التوظيفات التي قامت بها في الاقتصاد، أي بقدر ما ستتمكّن من استرجاع توظيفات قامت بها مستخدمة الودائع، ستتمكّن من توفير أموال المودعين من الدولار».

 

أزمة وجودية

من جهته، اكّد عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدنان رمال لـ«الجمهورية»، انّ الوصول الى صفر دولار يُعتبر في قمة السلبية وقمة الخطورة على بقاء الاقتصاد، خصوصًا انّ اقتصادنا استهلاكي ويعتمد على الاستيراد بما بين 80 الى 90 في المئة. لذا نحن مضطرون لتأمين الدولار الأميركي. فيما لو كان لدينا انتاج في لبنان، كان تفوّق الإنتاج على الاستيراد ولما كنا عانينا ما نعانيه اليوم. لأنّ في كل دول العالم تعدّ العملة الوطنية هي الأقوى في أي حركة تجارية او اي استهلاك محلي. وفي الحقيقة، اقتصادنا مدولر، حيث انّ 90 % من قيمة الاستهلاك بالدولار و75% من الودائع في المصارف هي بالدولار. فيُعتبر بالتالي الدولار الأميركي العملة الأساسية لاقتصادنا.

أما اليوم، وعندما شحّ الدولار او حتى بات غير موجود نهائيًا، لأنّ من يملك وديعة بالدولار اليوم غير قادر على الحصول عليها مهما كانت قيمتها، ما سرّع هذا الامر في التدهور الاقتصادي، حتى انّ جزءاً كبيراً من المحلات التجارية والسوبرماركت أُقفل او يتوجّه الى الاقفال والى تقليص عدد فروعه نتيجة تراجع حجم الاستهلاك وندرة الدولار في السوق، والذي يتكلّ عليه اقتصادنا.

وبالتالي، نحن متجهون الى أزمة وجودية في الاقتصاد اللبناني الذي يحيط به الخطر، خصوصاً القطاع التجاري، لأنّ اقتصادنا يقوم على الاستيراد والاستهلاك من خلال التجارة.

وأضاف رمال: «هذا ما يفسّر التدهور السريع بالاتجاه السلبي، ففي خلال 3 الى 4 اشهر فقدت المؤسسات والشركات نحو 70 في المئة من مداخيلها ومبيعاتها، وهذا ما انعكس سلبًا على موظفيها وعلى أصحاب العمل ورأسمالهم، وطاول الجميع، بمن فيها المؤسسات العريقة الموجودة في السوق منذ عشرات السنين، وهنا مكمن الخطورة».

وتابع: «والأخطر ان لا إجراءات حكومية حتى الآن للحدّ من هذا التدهور السريع في القطاع التجاري، ليستمر اقلّه بالعملية التشغيلية البسيطة. فالتجار كما كل اللبنانيين، يعانون اليوم من القيود المصرفية المفروضة والتي أدّت الى الوضع الذي نحن عليه، والاسوأ اننا نتجّه نحو صفر دولار نقدي في المرحلة المقبلة». 

توجّه جديد في الاستهلاك

وعن انعكاس شح الدولار على الوضع الاقتصادي، اكّد رمال انّ ماركات كثيرة انسحبت وستنسحب من السوق اللبنانية، لكن ليس هذا الأهم، انما هناك منتجات أساسية لم تعد متوفرة في الأسواق، وبعض المنتجات الأساسية أصبحت ثانوية بالنسبة الى المستهلك، والأخطر انّ اللبناني ما عاد يكترث لا للنوعية ولا للجودة، بل بات يبحث عن المنتجات الأرخص نتيجة القلة والوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه. لذا يحاول تلبية حاجاته بأي شيء، حتى بات استهلاكه عشوائيًا وغير منظّم بهدف سدّ الحاجات فقط لا غير.

ونتيجة ذلك، بدأنا نلاحظ أخيراً في بعض المحلات التجارية والسوبرماركات انتشاراً لأصناف وماركات لم تكن مقبولة سابقاً من المستهلك اللبناني نظرًا، لرداءة جودتها ولأنّ اللبناني كان دائمًا يفضّل المنتجات ذات المعايير الأوروبية. وكشف رمال انّ هناك العديد من المواد الاستهلاكية والغذائية السورية المنشأ باتت تغزو الأسواق اللبنانية كبديل عن المنتجات الأوروبية.

وقال رمال: «هذه المنتجات ما كانت تستهوي اللبناني في السابق، اضف الى ذلك انّ أسعارها ليست زهيدة انما مقارنة مع ما أضحت عليه أسعار بقية المستوردات التي كان يشتريها اللبناني قبل ان ترتفع أسعارها، باتت تعتبر اسعار المنتجات ذات المنشأ السوري مقبولة، او حتى يمكن القول انّ أسعار المنتجات السورية اليوم هي مثل أسعار المنتجات التقليدية التي كان يشتريها اللبناني قبل الأزمة».

وإذ ابدى رمال خشيته من ان تكون هذه البضاعة السورية التي تدخل الى لبنان مهرّبة ولا تدفع رسومًا جمركية، أوضح ان لا مشكلة صرف او تحويل مع الجانب السوري، لأنّ الأخير يقبل بالعملة اللبنانية بالنظر الى سهولة صرفها في الداخل السوري.

ورداً على سؤال، قال رمال: «قد تكون سوريا الدولة الوحيدة المستفيدة من هذه الأزمة، لأنّ بقية الدول تتعامل معنا اما بالدولار او باليورو. كذلك المصانع السورية مستفيدة لأنّه كان يصعب عليها في السابق الدخول الى الأسواق اللبنانية لأنّ منتجاتها لا تلبي الجودة التي يطلبها اللبناني.

وعمّا اذا كان يتوقع ان يستمر سعر صرف الدولار بالارتفاع في المرحلة المقبلة، قال: «كلما قلّ الدولار من السوق تضاعفت مشكلتنا، وكلما تناقص احتياطي مصرف لبنان سرنا في اتجاه اقتصادي أسوأ، يصعب بعدها السيطرة على سعر الدولار مقابل الليرة. أما متى اختفى الدولار من السوق فستحلّ مكانه سيولة مرتفعة من الليرة اللبنانية، وعندها سيسعى حاملو هذه السيولة الى تحويلها الى دولار في السوق السوداء، ما يعني انّ سعر صرف الدولار سيزيد في المرحلة المقبلة.

وعليه، اذا لم يدخل fresh money الى لبنان ما بين 7 و 8 مليارات دولار سنويًا كحدّ ادنى، اقلّه للسنوات الثلاث المقبلة، فلن تكون هناك قدرة للسيطرة على سعر الدولار، وقدرة على تمويل الاقتصاد اللبناني بالحاجات الضرورية، وهنا تكمن الخطورة».