"غير الله لن يراه أحد".. لبناني نجا من "قارب الموت" فاختفى أثره في سوريا

باع سيارته وأثاث منزله؛ وخاطر بحياته للهروب من "جهنم لبنان" إلى "فردوس أوروبا"، لكن القارب الذي أقله باتجاه حلمه، خذله وسط المياه، ليهاجمه الموت ومن معه من ركاب، إلا إنه لم يستسلم، سبح ساعات للوصول إلى بر الأمان، حينها وقع ما لم يكن في الحسبان، إذ اعتقله النظام السوري، لتنقطع أخباره تماما. إنه فؤاد حبلص ابن بلدة ذوق الحبالصة العكارية شمالي لبنان. 

كان فؤاد على متن الزورق الذي كُتب له الغرق قرب جزيرة أرواد السورية، وعلى متنه 150 راكبا، لم ينجُ منهم سوى  20 شخصا. وبحسب تصريح أدلى به مدير الموانئ السورية العميد، سامر قبرصلي، لوكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا"، فإن "عدد ضحايا المركب اللبناني وصل إلى 100 شخص حتى الآن، وذلك بعد انتشال جثة من عرض البحر مقابل الباصيه في بانياس". 

"غير الله ما بقى يشوفه" هي العبارة التي سمعتها زوجة فؤاد من عنصر أمني في المستشفى العسكري، الذي نُقل إليه الوالد لسبعة أبناء من مستشفى الباسل. وبحسب ما يقوله شقيقه يحيى "ما إن غرق القارب، حتى سارعت زوجته وشقيقته إلى سوريا للإطمئنان عليه، قابلاه وهو على سرير مستشفى الباسل، كان وضعه الصحي مقبولا، إذ عانى من إرهاق وهذا أمر طبيعي نتيجة ما مرّ به، التقطت شقيقتي صورا ومقطع فيديو له، أرسلتها لي على الفور، ليغادرا بعدها المستشفى". 

فؤاد حبلص أثناء وجوده في المستشفى.
بدا فؤاد في الصور التي التقطت له متوترا. وقال يحيى في حديث لموقع "الحرة" إن"ذلك كان بسبب وجود عناصر حراسة أمنية على باب غرفته"، لافتا إلى أنه في صباح اليوم التالي توجهت زوجته إلى المستشفى لزيارته، فتفاجأت بأنه تم نقله إلى المستشفى العسكري، وبعدما توجهت إلى هناك، رفض العنصر الأمني إدخالها، عندها طلبت منه تسليمه الأغراض التي جلبتها له، فما كان منه إلا أن صدمها بأن لا أحد بعد الآن يمكنه رؤيته أو التواصل معه". 

ازدادت عمليات الهجرة عبر شواطئ لبنان الشمالية، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد منذ خريف عام 2019. وبحسب الأمم المتحدة، فإن 38 مركبا على الأقل تقل أكثر من 1500 شخص غادرت لبنان أو حاولت الانطلاق منه بشكل غير شرعي بحرا بين يناير ونوفمبر 2021. 

الهروب إلى المجهول 
حاله حال الغالبية العظمى من اللبنانيين، خنقت الأزمة الاقتصادية فؤاد المسؤول عن عائلة مؤلفة من سبعة أولاد. وما زاد الطين بلّة مرض شقيقه يحيى بالسرطان، وحاجته شهريا إلى 8 علب دواء، ثمن كل واحدة منها 310 دولارات، ولأن الأفق مسدود في لبنان، ولكونه كان يرى شقيقه يصارع الموت أمامه من دون أن يتمكن من مد يد العون له، قرر المجازفة بحياته، علّه يجد خلف البحار ما لا تؤمنه دولته لشعبها. 

لتأمين ثمن الرحلة على القارب، باع فؤاد سيارته إلى المهرب وفوق ذلك باع قسما من أثاث منزله. فقد كان كل همه، كما يقول يحيى، "أن يعيلينا جميعا، فقد سافر من أجلنا، رافقه ابن عمي مصطفى في الرحلة، وهو الآخر لا يزال مفقوداً". وتابع "نعيش كابوساً مؤلماً، فبعد أن كان فؤاد يريد مساعدتنا من خلال سفره، ها نحن نبحث عمن يساعده للعودة إلى وطنه". 

لن تطأ قدما فؤاد سوريا يوماً، لا سيما، كما يقول يحيى، أنه "سبق أن تم توقيفي وإياه في لبنان، نتيجة صلة القرابة التي تربطنا بالشيخ خالد حبلص، جرى التحقيق معنا، كما تم اتهامنا بالانضمام إلى مجموعة عسكرية تابعة للشيخ داعي الإسلام الشهال، وقد صدر حكم براءتنا من الإرهاب، وبعد سجننا لفترة زمنية تم إطلاق سراحنا".  

برز اسم الشيخ خالد حبلص، إمام مسجد هارون في بحنين، في عام 2014، مع بدء تنفيذ الخطة الأمنية في طرابلس، حيث صوب عليها معتبرا أنها "وضعت لاعتقال الشباب المسلم المؤمن والملتزم والمؤيد للثورة السنية"، داعيا العسكريين إلى الانشقاق عن الجيش، وإلى الثورة السنية، وفي أبريل من العام التالي تم اعتقاله. 
لا تعلم عائلة حبلص بمصير ابنها "البعض يقول إنه جرى نقله إلى فرع فلسطين الأمني، وآخرون يقولون أنه في فرع 205، لا بل حتى هناك من يقول أنه فارق الحياة، فلا خبر مؤكد عنه حتى الآن". 

وعما إذا كان قد تواصل معهم أي مسؤول لبناني، قال يحيى "أنا من تواصلت مع رئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير، الذي تجاوب معي على الفور، اتصل بمسؤولين لبنانيين أثناء حديثي معه على الهاتف، كما أنه أطلعني في اليوم التالي أنه تواصل مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ومدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم وغيرهما، وقد كان وضاحاً وصريحاً معي، حيث قال لي أنه قام بكل ما في وسعه، وإن كان بإمكاننا القيام بشيء لفؤاد فلنفعل ذلك". 

بعد غرق الزورق الذي كان يقل لبنانيين ولاجئين فلسطينيين وسوريين، قال مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، "هذه مأساة مؤلمة أخرى"، داعياً المجتمع الدولي إلى تقديم المساعدة الكاملة لـ"تحسين ظروف النازحين قسراً والمجتمعات المضيفة في الشرق الأوسط". 

وأضاف في بيان مشترك مع وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين والمنظمة الدولية للهجرة "الكثيرون يدفع بهم نحو حافة الهاوية". 

"تخاذل لبناني - سوري" 
في حديث لموقع "الحرة"، أكد اللواء خير أنه تواصل ولا يزال مع كل السلطات المعنية بهذا الملف، إلا أنه إلى حد الآن لم يتلق سوى الوعود. وبسؤاله عن المفقودين اللبنانيين الذين كانوا على متن الزورق، حيث أن عائلات عدة لم تجد أبناءها لا من بين الأحياء ولا الأموات، وفيما إن كان هناك احتمال توقيفهم من قبل النظام السوري، أجاب "لا يوجد سوى لبناني واحد ممن كانوا على متن الزورق موقوف في سوريا". 

وبسؤال مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، عما إن كان هناك موقوفون لبنانيون آخرون في سوريا، أجاب " كلا، كون نظام الأسد يحاول إظهار بطولاته بعملية إنقاذ من كانوا على متن الزورق، رغم أن الصيادين هم من قاموا بذلك، لا بل تخاذل النظام كان واضحاً، فرغم أن اتجاه الموج كان شمالاً، عمل عناصر النظام على البحث من جزيرة أرواد إلى الحدود اللبنانية السورية، بدلاً من الاستعانة بالطائرات للبحث في الاتجاه الصحيح". 

وأشار عبد الرحمن في حديث لموقع "الحرة"، إلى أن هناك ثمانية موقوفين سوريين مثبت توقيفهم من قبل النظام السوري، إضافة إلى أربعة آخرين، مصيرهم مجهول، فيما إن أطلق سراحهم من عدمه، كونه لم يتم التمكن من التواصل مع عائلاتهم، كما أنه وفق المعطيات التي لديه لا يزال هناك 30 سورياً مفقوداً. 

وأضاف "النظام السوري مجرم، فإذا كان الموقوفون معارضين حقيقيين فإن مصيرهم السجن، وإذا لم يكونوا كذلك سيتعرضون للابتزاز لدفع رشى مالية لإطلاق سراحهم". 

وعند سؤاله عن المصير الذي ينتظر حبلص إن كان سبب توقيفه صلة قرابته بالشيخ خالد حبلص، أجاب "إذا كان هذا هو السبب، فإن حزب الله يكون خلف توقيفه، وعلى الحكومة اللبنانية أن تتدخل" متسائلاً " كيف يحق للنظام السوري إيقاف مواطن غير مطلوب في وطنه؟ وكيف تسمح السلطات اللبنانية بذلك؟ أما في ما يتعلق بالسوريين الموقوفين فليس أمامنا إلا مناشدة الجهات الدولية لإطلاق سراحهم، وإلا سيكون مصيرهم مصير عشرات الآلاف من المعتقلين في سجون النظام". 

ويشدد عبد الرحمن قوله: "يجب على الصليب الأحمر والأمم المتحدة التدخل لإطلاق سراح الموقوفين، وما حصل يذكرنا بما قام به نظام الأسد في شباط 2021، حين أوقف عدداً من السوريين الذين هربوا من لبنان على متن قارب إلى قبرص، فوجدوا أنفسهم في بانياس، ليجري نقلهم من قبل مخابرات النظام إلى دمشق، حيث اختفى بعدها كل أثر لهم". 

اللوم الكبير، كما يقول مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، يقع على الحكومة اللبنانية، "إذا بعد حادثة غرق الزورق، استمرت عمليات الهجرة غير الشرعية"، وكان رواد مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان تناقلوا صوراً لوصول قارب هجرة إلى إيطاليا قبل أيام، إلا أن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي - شعبة العلاقات العامة أشارت في بلاغ اليوم السبت إلى أنه أوقفت ثلاثة أشخاص لبنانيين، كانوا يحضّرون لعملية تهريب أشخاص عبر البحر إلى إيطاليا. 

وأوضحت "بتاریخ 19-9-2022، وبعد رصدٍ ومراقبة دقيقة، نفّذت إحدى دوريات الشّعبة كميناً محكماً في محلّة العريضة، نتج عنه توقيف الأشخاص الثلاثة على متن سيارة نوع مرسيدس، وذلك في أثناء توجههم إلى شاطئ البحر. وبالتزامن، تم ضبط كمية من المازوت معبأة في غالونات ومجهزة ليتم وضعها على متن المركب، مع كميات من المواد الغذائية، وذلك على شاطئ البحر في محلّة الشيخ زناد، والتحقيق معهم، اعترفوا بما نُسب إليهم". 

كافأ نظام الأسد من شارك بعمليات الإنقاذ بحسب ما يؤكد عبد الرحمن بـ 5 ليترات من المازوت، "في وقت احتاج كل منهم إلى نحو 30 ليتر مازوت، كما أن المعلومات المؤكدة التي حصلنا عليها تشير إلى أن عناصر النظام الذين شاركوا في عمليات الإنقاذ، سرقوا المجوهرات التي كانت ترتديها النساء اللواتي فارقن الحياة غرقاً". 

كل ما تأمله عائلة حبلص أن يتم الكشف عن مصير ابنها، وأن يكون على قيد الحياة، وتفرح بضمّه من جديد، حيث طلب يحيى من المسؤولين اللبنانيين أن يقوموا بواجبهم، متوجهاً كذلك إلى كل من يمكنه المساعدة أن يبادر بذلك، فـ"أولاد فؤاد وكل أفراد عائلته ينتظرون على أحر من الجمر أن تخمد نيران قلبهم بعودته إليهم".