شباب الخندق الغميق: السيد حسن هو من يرى ويأمر

لعب "المندسون" في هذه التحركات كلها دوراً رئيسياً في إجهاض أو إفشال التظاهرات. والمندسون في لغة المتظاهرين هم "الزعران" الذين يتسببون بمعارك أو مشاكل مع القوى الأمنية، أو مع المتظاهرين. وهم غالباً من مؤيدي الأحزاب الطائفية في لبنان، ويحاولون الالتفاف على مطالب الحراك، إن باندساسهم السلمي بين المتظاهرين، أو باعتدائهم على المتظاهرين بالضرب وتحطيم ما تصل إليه أيديهم في المكان. وغالباً ما يُتهم شباب حي الخندق الغميق بارتكاب هذه الممارسات.

الخندق غميق جداً بين الشباب المتظاهرين وشباب حي الخندق الغميق المؤيدين لحركة أمل وحزب الله، والذين يبثون القلق في المتظاهرين. وما أن تظهر حركة خارجة عن المألوف في ساحات التظاهر، حتى تتوجه أصابع الاتهام مباشرةً إلى شباب الخندق. فصورة فهؤلاء الذين هاجموا متظاهري تحرك "طلعت ريحتكم"، والتظاهرات الحالية بأسلحتهم البيضاء، حاضرة بقوة في أذهان الثائرين ووعيهم وذاكرتهم.

وبعد أكثر من شهر على بداية الثورة الراهنة، أين هم شباب الخندق؟ ما هو رأيهم في الحراك؟ ولماذا لم تستطع هذه الثورة ولا الاحتجاجات التي سبقتها استقطاب هذه الفئة، رغم مطالبها المحقة؟

كل الحق عالثورة
لا يبعد الخندق الغميق عن ساحتي رياض الصلح والشهداء سوى أمتار قليلة، لكن الهوّة بين الشارعين كبيرة جداً، على الرغم من أن مطالب ومعاناة شباب الثورة المعيشية وشباب الخندق واحدة.

على طول الشارع المؤدي من وسط المدينة إلى الخندق الغميق، تراقبك صور الزعامات الشيعية المنتشرة. والشعارات والأعلام والصور تشير إلى أنك في عقر دار الثنائي الشيعي.

اقترب من رجل ستيني يسعى وزوجته التي تعاونه في دكان، إلى تحصيل لقمة عيشهما. الجميع يتجوس من الصحافة، فكيف بصحافية، وتريد التحدث عن الثورة! ارتعد العم حسين خوفاً عليّ، قائلاً: "انتبهي على حالك، جاي عالمحل الغلط". فالعم حسين وسواه من شباب الحي يتهمون الثورة بأنها باتت مسيسة. فهي كانت عفوية وصادقة في الأيام الأربعة الأولى من انطلاقتها - بحسبهم - وبعد ذلك باتت "مخروقة" من الحزب الاشتراكي والقوات اللبنانية وتيار المستقبل. ودليلهم إلى ذلك شتمُ بعض المتظاهرين الزعماء، ومن بينهم حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله. وهذا يعتبر من المحرمات لدى شباب المنطقة.

يستقبل العم حسين، أثناء محادثتي، أحد موزعين البضائع والمنتجات. قيمة الفاتورة التي باتت أعلى من سابقاتها جعلته يستشيط غضباً: "تفضلي الثورة لوين وصلتنا"، قال لي. ففي بيئة العم الثورة هي سبب كل ما يحدث من تردي الأوضاع الاقتصادية، وتفاقم أزمة الدولار التي بدأت قبل الثورة التي عجّلت الانهيار.

العم حسين الذي لم يشارك في التظاهرات إطلاقاً، يتهم المشاركين فيها بالفسق والفجور. يقول إنه رآهم بأم عينه على شاشة التلفون. لكنه لا يمانع يبيع منتجاته لباعة صغار يجرون عرباتهم في رياض الصلح والشهداء، وهي أماكن تجارية مربحة في موسم الثورة، ويتقصى منهم العم حسين أخبار تمويل الثورة. وهو يستغرب كيف يشتري المتظاهرون زجاجة المياه بألف ليرة، بدلاً من 500 ليرة لبنانية.

كحول وشبان
أكمل جولتي في زواريب الخندق. صوت امراةٍ من داخل أحد المحال يخترق الهدوء. تقول المرأة: "نحن الطائفية هي لي وصلتنا لهون". أشعر بالإلفة، أفرح لجرأتها على رفع شعار من شعارات الثورة في الخندق الغميق. أحييها باسمة، أسألها عن رأيها في الثورة. علامات الدهشة ترتسم على وجهها، وتهمس إلي: "سكري عالموضوع والحقيني. هون جاي تحكي بموضوع الثورة؟!". أسير قربها، فتطلب مني النظر يميناً لأرى محلاً مليئاً بزجاجات مشروبات روحية: "ما هو ممنوع في الساحات مسموح به هنا"، تقول وتطلب أن أنظر شمالاً مشيرةً إلى مجموعة من الأشخاص: "هول هني محركي الشباب، بيقولولهم نزلوا، بينزلوا".

أسرارهم من صغارهم
في حوالى الساعة الواحدة والنصف، يرن جرس المدرسة معلناً إنتهاء اليوم الدراسي. تتهافت إلى مسامعي هتاف "ثورة، ثورة". على هذا النحو بات تلامذة المدارس في الخندق ينهون نهارهم. عند ناصية الرصيف أجد بائع النرجيلة، ناصباً خيمة فيها عدد من الكراسي لأستقبال الزوار. على الرغم من خلو المكان من الزبائن، سرعان ما توافد الشباب وتجمهروا على مدخل الحي. يقف محمد الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وبلا خوف يعلن وسط الحشد تأييده للثورة. فهو يشارك فيها كل ليلة. يتحدث بلسان الثوار، ويلوم السياسيين -"كلن يعني كلن"- على فسادهم، لاعناً الطائفية والطوائف كافة، وحالماً بوطن جديد. يقاطعه رجل في الخمسين من عمره، وحركاته تعبر عن استخفافه بالمتحدث، ويقول: "ولد". يردد هذا الرجل الاتهامات التي تقول إن الحراك تسيّس، و"الفسق والفجور" يمارسان في الساحات. لا يعبأ الرجل بأحوال البلاد، ولا بالفساد الذي ينخرها.

.. ومن شبانهم
وجاء خضر إلى الجلسة، وهو أحد الفارين من وجه العدالة. راح يصب غضبه على الثوار الذين منعوا انعقاد جلسة مجلس النواب الأخيرة. شباب الخندق لا يفهمون أسباب اعتراض الثوار على انعقادها نهار الثلاثاء الفائت. كما لا يثق المتظاهرون بخطابات السياسيين، لا يثق شباب الخندق بالثورة وأهدافها. شباب الخندق لا يتابعون أصلاً ما يجري في الساحات، فلا يسمعون ما يدور في ساحة اللعازارية من نقاشات، ولا يشاهدون التلفزيون بهدف سماع خطاب المتظاهرين. هم حفروا خندقهم الخاص. خندق سقفه كلمات أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ورئيس حركة أمل نبيه بري. وخندق كلما حاولوا التلصلص منه على العالم الخارجي، اصطدموا بسقف غربتهم عنه.

السيد وحده يرى
يستخدم شباب الخندق أيضاً مصطلح المندسين والزعران. ويعتبرون أن الثورة مليئة بهم. وهدفهم من الهجوم على رياض الصلح وجسر الرينغ، هو لـ"تطهير الثورة منهم"، يقولون. إغلاق جسر الرينغ المتاخم لمنطقتهم، من عمل المندسين - بحسبهم - وهو يستفزهم. لكن التخبط والضياع سرعان ما يظهران في تناقض كلامهم وتضاربه. منهم من يعتبرون أن الثورات تكون بالعنف والتكسير والشغب، فيما هم يعترضون قطع الطرق. يدعون المتظاهرين للتوجه إلى منازل الوزراء والزعماء، إلا منزل الرئيس بري.

في الزاوية يجلس علي الذي شارك في الاعتداء على المتظاهرين في رياض الصلح وجسر الرينغ. يقول: الهدف هو الهجوم على جسر الرينغ فقط، ولكن لما وصلنا إلى هناك، لم يتعرض لنا أحد. ويسأل سواه من الشباب: لماذا لم تتدخل القوى الأمنية لإيقافنا؟! هي فعلت العكس، فقد سهلت طريقنا إلى الساحات. ثم سرعان ما يتهمونها بالتبعية للرئيس سعد الحريري، وبالتواطؤ لإحداث حالة من الشغب في البلاد.

ختم الشباب جلستهم داعين شباب الثورة إلى الحذر من المندسين المحرضين على سلاح حزب الله، رافضين مبدأ قطع الطرق المؤدية إلى مناطقهم، معتبرين انهم لا يتحركون أو يشاركون، إلاّ بإيعاز من السيد نصرالله: "هوي يلي بيشوفوا، نحنا ما فينا نشوفوا. وهو بدو مصلحتنا، ويأمرنا"، يقول أحدهم منهياً الحديث.

 

 

نبيلة غصين