التنقيب عن الغاز اللبناني: تفاؤل حاصرته السياسة وتهدّده الحرب

انطلق ملفّ التنقيب عن الغاز في البلوك رقم 9 بعد إجهاز السلطة السياسية على الحدود البحرية الصحيحة للبنان. وتحت شعار "قانا مقابل كاريش"، تخلَّت السلطة عن الخط رقم 29 واعترفت بالخط 23، واعتبرت التنازل انتصاراً يُمكِّنها من بدء الاستفادة من مخزون الغاز وتجاوُز الأزمة الاقتصادية. وعلى هذا الأساس، شهد العام 2023 بدء عمليات التحضير اللوجستي لاستقبال منصّة الحفر، ثم انطلاق عملية الحفر. لكن عقبات ظهرت وأوقفت العملية. أما الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، فأحالت الملفّ إلى المستقبل المجهول بانتظار ما ستفرزه الحرب حين تنتهي.

قطر تكسر جمود ملف التنقيب

مع نهاية شهر كانون الثاني 2023 كان لبنان يتلقَّف تحريك الجمود الذي شهده ملف التنقيب عن الغاز، خصوصاً بعد خروج شركة نوفاتك الروسية من التحالف الذي تقوده شركة توتال الفرنسية، وبعضوية شركة إيني الإيطالية. وتمثَّلَت بوادر الحلحلة بدخول شركة قطر للطاقة كشريك ثالث بدل نوفاتك. ووصفَ وزير الطاقة وليد فيّاض استكمال ملف التنقيب بأنه "انطلاقة لمرحلة جديدة تثبّت موقع لبنان على الخارطة البترولية".

وعلى عكس التفاؤل السريع الذي أبداه فيّاض، كان المدير التنفيذي لمجموعة توتال، باتريك بويانيه، أكثر حَذَراً، إذ وَضَعَ الأمور في جدولها التسلسلي، معتبراً أننا "في مرحلة الاستكشاف". واحتمال وجود كميات تجارية من الغاز "ليس 100 بالمئة". ومع ذلك "ملتزمون بالعمل على البئر الأول في أقرب وقت ممكن".

خطوات تحضيرية تسبق الحفر

بانتظار وصول منصة الحفر "ترانس أوشن بارنتس" Transocean Barents، أشرفت وزارتا الطاقة والأشغال على جهوزية المحطّتين اللوجستيّتين في مرفأ بيروت وفي مطارها. فمحطّة المرفأ ستكون أرض الخدمات اللوجستية المطلوبة في عملية التنقيب، وفي المطار سيكون هناك الخط الجوّي الذي سينقل الأشخاص وما يلزم من معدات، إلى موقع الحفر في الجنوب.

وبالتوازي، أنهت السفينة "جينيس 2" JANUS التابعة لشركة توتال الفرنسية، عملية المسح البيئي للبلوك رقم 9، بعد ثمانية أيام جمعت خلالها معلومات عن البيئة المحيطة وعمق البحر، وستساعد المعلومات في التأكّد من أن البيئة آمنة، وفي الوقت عينه للحفاظ على البيئة بالجودة التي هي عليها قبل الحفر.

إطلاق الاستكشاف والذهاب نحو بلوك 8

وصلت منصة الحفر إلى موقعها، وبدا أن كلّ شيء يسير وفق ما خُطِّط له. وافتُتِحَ نشاط الاستكشاف بشكل رسمي مع وصول رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، إلى موقع الحفر، إلى جانب وزير الطاقة وليد فيّاض ووزير الأشغال علي حميّة.

ومع أن هذه الخطوة تمثِّل تقدّماً في هذا الملف، ذهب برّي سريعاً إلى استخلاص نتائج التنقيب، فعبَّرّ عن أمله في أن يُستفاد من ثروة لبنان الكامنة تحت البحر بـ"إزاحة الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان وشعبه". وعلى عكسه، لم تستعجل شركة توتال إطلاق التوقّعات، فأراد مديرها العام في لبنان رومان دو لامارتينيير، انتظار نتائج حفر البئر الاستكشافية التي "ستسمح لنا بتقييم الموارد الهيدروكربونيّة وإمكانات الإنتاج في هذه المنطقة".

عبَّرَت السلطة السياسية عن تفاؤلها حيال ملف التنقيب، واستكملت خطواتها بالانتقال نحو البلوك رقم 8، فأعطت وزارة الطاقة الترخيص بالقيام بالمسوحات الزلزالية الثلاثية الأبعاد، لتحالف شركتيّ "برايت سكايز جيوساينس" Brightskies Geoscience ومقرّها في القاهرة، و"جيوكس أم.سي.جي" geoex mcg وهي شركة بريطانية. وبموجب الترخيص، سيقوم التحالف بإجراء المسوحات وإعداد المعلومات التي ستتوفَّر، لتكون مرجعاً لشركات التنقيب التي ترغب بالتقدُّم للاستثمار في البلوك 8.

توقُّف أعمال الحفر ثم استئنافها

التفاؤل الذي رافق انطلاق أعمال الحفر، سرعان ما بدأ يخفت مع إعلان شركة توتال مواجهة "صعوبات" في استكمال الحفر في الموقع المحدَّد. وطلبت الشركة "تغيير الموقع" بعد وصول الحفر إلى عمق 1713 متراً من أصل 1678 متراً. وبرَّرَت الشركة طلبها بـ"وجود صخور تمنع القيام بإدخال القميص الحديدي بقطر 36 إنشاً داخل أرض البحر".

لكن آراء الخبراء في مجال النفط أكّدوا لـ"المدن" بأن "لا صخور في المبدأ يصعب اختراقها والتعامل معها. ونادراً ما تُخطىء شركات مثل شركة توتال بتحديد أنواع الصخور قبل حفرها، فلكل نوع تردداته التي تسجّلها أجهزة الاستشعار خلال عمليات المسح". وهذا يعني أن الأعذار التقنية ضعيفة، ما يُبقي احتمال توقّف الحفر بفعل قرار سياسي، احتمالاً أقوى.

مع ذلك، غيَّرَت توتال مكان الحفر إلى النقطة الثانية المتفق عليها في عقد التنقيب مع لبنان. وبعد الابتعاد 31.7 متراً من مكان الحفر الأوّل، توقّفَ الحفر الثاني بعد تسريب معلومات تفيد بأن الشركة وصلت إلى عمق 3900 متراً ولم تجد الشركة غير الماء، علماً أنه كان من المفترض استمرار الحفر وصولاً إلى عمق 4400 متراً. والوصول إلى هذه الخلاصة، لم يُبَرهَن بوثائق رسمية تستند إلى نتائج عملية التصوير التي يفترض بالشركة إجراؤها لتتبيَّن خلالها الطبقة التي وصلت إليها وظهر معها ما تحتويه، سواء كانت مياهاً أو نفطاً أو غازاً.

وهذه النتائج، تؤكّد أن عملية الحفر تسير بأسلوب ضبابي، ما يرجِّح وجود ما يُراد إخفاؤه من قرارات ذات أبعاد سياسية مرتبطة بملفّ التنقيب، ولا يريد أحد من القوى السياسية حمل وزر كشفها علانية، فتبقى ضمن دائرة تسريبات لا يتبنّاها أحد، إلى حين بروز معطيات جديدة.

الحرب جعلت مصير التنقيب مجهولاً

ما يجري في ملف التنقيب عن الغاز "استخفاف بعقولنا"، هكذا يقول عصام خليفة، استاذ علم التاريخ الذي يملك وثائق وخرائط تؤكّد حق لبنان بمساحات أكبر من المياه، وتالياً النفط والغاز. والاستخفاف برأي خليفة يُدَعَّم بعدم جرأة وزارة الطاقة على كشف التفاصيل، أو الضغط على شركة توتال لكشف تقاريرها. وهذا بدوره يؤكّد أن "إسرائيل تسرق غاز حقل قانا منذ العام 2020. ولدينا خرائط ومعلومات تؤكّد ذلك"، يقول خليفة. معطيات واضحة وأخرى مجهولة تتكامل لتعطي صورة غير مستحبّة عن مسار ملف التنقيب. وقبل أن يشتدّ الخناق على السلطة السياسية التي باتت مُطَالَبة بالكشف عن إيضاحات كثيرة للرأي العام، انفجرت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة ووصلت تداعياتها إلى الجنوب اللبناني، فأجَّلَت البحث في ملف التنقيب نظراً للمخاطر العسكرية التي قد ترافق الاستمرار بالعمل.

إلاّ أن عدم الإفصاح عن النتائج التي وصلت إليها شركة توتال، قد يتفاقم مع المزيد من الغموض الذي قد يُفرَض على هذا الملف بانتظار ما ستفرزه التسويات السياسية المرتبطة بالحرب على غزة ولبنان. وفي حين يبقى مستقبل التنقيب عن الغاز اللبناني معلَّقاَ، دخلت إسرائيل مرحلة التصدير من حقل كاريش في شباط الماضي، بعد انطلاق عملية ضخ الغاز في 9 تشرين الأول 2022.