إدارات متجاوبة لكن "الكاش" عائق.. "الكهرباء" أعدّت جداول بالمؤسسات والادارات المتخلّفة عن تسديد فواتيرها

في إطار تطبيق استراتيجيتها على صعيد رفع التغذية، تتابع وزارة الطاقة و"مؤسسة كهرباء لبنان" تنفيذ خطتهما المشتركة في توسيع قاعدة الجباية ورفد المؤسسة بأكثر ما يمكن من الايرادات بغية تأمين "التكاليف الكبيرة لإنتاج الكهرباء وصولاً الى توزيعها على المشتركين وتأمين الصيانات والتصليحات اللازمة لمنشآتها وشبكتها الكهربائية، خصوصا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة السائدة في البلاد". لذا لجأت مؤسسة الكهرباء منذ فترة الى توجيه انذارات متتالية للمتخلفين عن تسديد متأخراتهم، وهددت مرارا باتخاذ اجراءات ميدانية من خلال قطع التيار الكهربائي عن المتخلفين عن السداد، وكان آخرها أمس، على ان تنتهي المهلة الثلثاء المقبل للمؤسسات والادارات المتخلفة عن التسديد، وإلا "سوف تضطر مرغمة إلى قطع التيار الكهربائي، وفقاً للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء".

تُعدّ ادارات الدولة ومؤسساتها العامة والعسكرية من أكبر المستهلكين للطاقة، إذ تستهلك نحو 20% من قيمة الفاتورة العامة للكهرباء، فيما تصل فاتورتها الى نحو 12 مليون دولار شهريا. هذه المؤسسات والادارات اعتادت سابقا في زمن الدعم المفرط الذي كانت تؤمّنه الدولة لكهرباء لبنان التمنّع أو المماطلة لوقت طويل بتسديد فواتير الكهرباء والمتوجبات التي كانت تتراكم احيانا لما يزيد عن 10 سنين. لكن زمن العز ولّى وأخذ بجريرته الدعم وبات ظهر "كهرباء لبنان" وتوازنها المالي على الحائط، وإن كانت موازنتها لسنة 2023 قد أتت متوازنة من دون عجز أو طلب مساهمة مالية من الدولة وذلك "بالارتكاز على مقومات خطة الطوارئ الوطنية لقطاع الكهرباء". ولكي تتابع المؤسسة مسيرتها فإنها تحتاج الى كل ليرة متوجبة لها لدى المستهلكين، مواطنين كانوا أم مؤسسات رسمية، لذا سعت مرات عدة مكررة مطالبتها الدولة ومؤسساتها بتسديد المتوجبات. لكن سياسة اللامبالاة عند بعض المؤسسات لا تزال سارية المفعول والبعض الآخر استجاب جزئيا، فيما معظم هذه المؤسسات لا تزال واقعة في معضلة عدم توافر السيولة الكافية لديها، وعليه وجَّهت كتباً رسمية الى مصرف لبنان لتسديد ما يتوجب عليها الى "الكهرباء" من حساباتها المفتوحة لديه. بيد ان المطالبات اصطدمت بسياسة تجفيف السيولة ب#الليرة اللبنانية من السوق التي يعتمدها مصرف لبنان بدقة، لذا لم يبادر "المركزي" الى التنفيذ حتى الآن محاولا حض المؤسسات العامة على تكثيف جباياتها لتحصيل أكبر سيولة ممكنة ورفد مصرف لبنان بها ليحوّلها ساعتئذ الى "كهرباء لبنان".

 

تريليونا ليرة فواتير غير مسددة!

مصادر "كهرباء لبنان" أكدت أن المؤسسة وجهت كتباً متتالية للوزارات والادارات والمؤسسات العامة تطالبها فيه بتسديد ما هو متوجب عليها، وثمة ادارات تتعاون مثل "تلفزيون لبنان" ومؤسسات المياه، في حين ان إدارات أخرى ترفض التجاوب وتعتبر أن مؤسسة الكهرباء هي مؤسسة تابعة للدولة وتاليا تتصرف بعقلية من "العبّ للجيبة".

ولكن المشكلة وفق المصادر عينها أن بعض المؤسسات لا تتوافر لديها سيولة بالليرة "فريش" لتسديد فواتيرها، "لذا أرسلنا كتباً الى مصرف لبنان لكي يجد الآلية الاسهل أو المناسبة لتحويل الاموال من حساباتها في "المركزي" الى حسابات الفريش لمؤسسة الكهرباء".

وإذ تؤكد أن الإنذار نهائي ولا رجعة عنه، تشير المصادر الى أن الكثير من المؤسسات لا تزال غير مقتنعة بأنه "يمكن أن نلجأ الى قطع التيار عنها، علما أننا أنجزنا تقريبا تحضير جداول بأسماء المؤسسات والادارات التي لم تسدد، لكي يتم فصل التيار عنها، وأن قيمة الفواتير غير المسددة في هذه الادارات تقدر بنحو تريليوني ليرة، من دون اخذ الانارة والبلديات في الاعتبار".

أما بالنسبة الى مخيمات النازحين السوريين والفلسطينيين، فتوضح المصادر ان ثمة مشكلة كبيرة، "إذ لا نجد من يتبناهم، فقد توقفت "الأونروا" عن تسديد قيمة استهلاك الطاقة عن مخيمات الفلسطينيين، فيما تمتنع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) عن تسديد استهلاك مخيمات النازحين السوريين للطاقة. فالمخيمات الفلسطينية تستخدم نحو ثلث الطاقة (200 ميغاواط)، فيما تقدر الكلفة السنوية لاستهلاك الطاقة المستخدمة من النازحين السوريين بنحو 350مليون دولار" (يستهلكون 486 ميغاواط من الكهرباء)، مشيرة الى أن المؤسسة "وبغية خفض التكاليف، تعمد الى تقنين ساعات التغذية في المناطق التي توجد فيها المخيمات الفلسطينية والسورية، في مقابل تزويد المناطق التي تتجاوب بساعات تصل الى 6 ساعات يوميا، مع الاخذ في الاعتبار أن كل المناطق بدأت تتجاوب بالتسديد".

مصادر معنية في مصرف لبنان لم تنفِ أن ثمة اشكالية تتعلق بموضوع تسديد المؤسسات والادارات العامة مستحقات مؤسسة الكهرباء التي تلزمها بأن يكون التسديد نقديا، فيما غالبية الحسابات القديمة للمؤسسات والادارات العامة هي نتيجة شيكات وتحاويل، وتاليا فإن مصرف لبنان متردد في تحويل هذه الاموال الى حسابات "كهرباء لبنان الفريش". وأشارت الى أن مصرف لبنان أوعز الى هذه المؤسسات والادارات العامة بان تسدد "كاش" من ايراداتها الجديدة لكي يدفعها لمؤسسة الكهرباء. ويأتي ذلك ضمن استراتيجيته لادارة السيولة في السوق والمحافظة على استقرار سعر الصرف في هذه الظروف. وتختم المصادر بالتأكيد أنه تتم مناقشة الحلول في مصرف لبنان على ان يصدر القرار النهائي من المجلس المركزي.

 

لا ارادة سياسية بإصلاح القطاع!

الخبير المالي والاقتصادي الدكتور نسيب غبريل، أكد لـ"النهار" أن أزمة قطاع الكهرباء تجسد سوء استخدام السلطة السياسية، وسوء ادارة القطاع العام منذ سنوات. "فالمشكلة ليست تقنية بل هي قرار سياسي فيما يبدو واضحا أنه منذ عام 1996 أن كلفة الانتاج لمؤسسة الكهرباء أقل من كلفة البيع، وتاليا كان يجب تعديل التعرفة منذ زمن تزامناً مع ارتفاع اسعار النفط الى مستويات قياسية". ويقول إنه "في آذار 2021 طلبت وزارة المال من مؤسسة الكهرباء ان تقدم اقتراحا يتعلق بآلية تسديد سلفات الخزينة والتحويلات التي حصلت عليها من الخزينة بين 1997 و2020 والتي قدرتها الوزارة بنحو 24 مليارا و540 مليون دولار. اضافة الى ذلك، فإن التدقيق الجنائي لشركة "ألفاريز أند مارسال"، بيّن أن مصرف لبنان استنزف نحو 24 مليارا و530 مليون دولار من احتياطاته بالعملات الاجنبية بين الاعوام 2010 و2021 على قطاع الكهرباء (19 مليار دولار لمؤسسة الكهرباء، و5 مليارات و530 مليون دولار للطاقة). عدا عن ذلك، فإن القرار السياسي بعدم اصلاح قطاع الكهرباء شكل عبئا على المالية العامة، لأكثر من 20 عاما، بما أدى الى اتساع العجز في الموازنة سنويا. وبالارقام فصّل غبريل التحويلات من الخزينة الى "مؤسسة كهرباء لبنان"، لافتا الى أنها شكلت نحو 5% من الناتج المحلي في العام 2012، و4.3% من الناتج في 2013، و4.4% من الناتج في 2014، و2.3% في 2015، و3.2% في 2018، و2.8% في 2019، و3.7% في 2020، و3% في 2021. هذه الاعباء والتكاليف تعكس القرار السياسي بعدم الاصلاح، مع الاشارة الى ان مؤشرات الحكومة والادارة الرشيدة التي تصدر عن البنك الدولي تظهر أن 92.5% من دول العالم لديها حكومات فعالة أكثر من الحكومات اللبنانية المتعاقبة.

بالنسبة الى موضوع الفواتير غير المسددة، يضع غبريل الامر في اطار القرار السياسي ايضا، مستندا الى تقرير اصدره البنك الدولي في العام 2018 عن وضع مالية مؤسسة الكهرباء، ليتبين ان قيمة الفواتير غير المسددة هي نحو مليارين و400 مليون دولار. (مليارا دولار فواتير غير مسددة من مؤسسات القطاع العام كافة، و400 مليون دولار من القطاع الخاص). وإذ أشار الى أنه "مع تعديل التعرفة أخيرا لتصبح على سعر منصة صيرفة، أضيف اليها 20% لتغطية المناطق والمؤسسات التي لا تدفع الكهرباء، وهذا أمر غير مقبول"، جدد القول: "الحل التقني موجود، ولكن القرار السياسي غائب، بدليل أن ثمة قانونا في 2014 سمح للقطاع الخاص بأن ينتج كهرباء في المناطق، وقد تقدمت شركات عدة للحصول على رخص في هذا الشأن، لكن طلبها لم يجد طريقه الى التنفيذ. ويبدو أن المولدات ستبقى متحكمة في السوق، فهناك هرم يستفيد من هذا التفلت".

وذكّر بمؤتمر "سيدر" الذي عقد عام 2018، "فالمجتمع الدولي واصدقاء لبنان تعهدوا بتمويل اعادة تأهيل البنى التحتية في لبنان بمبلغ 11 مليار دولار على فترة 12 سنة، وكان تركيزهم على إنشاء هيئة ناظمة مستقلة لكهرباء لبنان، ولكن الارادة السياسية لم تشأ ذلك، كونها تكفّ يد السياسيين عن التدخل في قطاع الكهرباء. لذا لم يطبق اي اجراء اصلاحي من المشروع الذي قدمته السلطات اللبنانية، وتاليا طارت فرصة سيدر التي كانت مناسبة لاصلاح قطاع الكهرباء واعادة تأهيل البنى التحتية، علما أنه كان يمكن تجنب الأزمة التي اندلعت في العام 2019".